زمن التفاهة… عندما تتحول الأحزاب إلى مشروع خراب

بقلم جوان ديبو أيلول/سبتمبر 16, 2023 83

زمن التفاهة… عندما تتحول الأحزاب إلى مشروع خراب


تشكيل حزب جديد لا يكلف المرء كثيرا في السوق السياسية الكردية بسوريا، فالسياسة بضاعة لها شراة.

أحزاب كثيرة والقضية واحدة
لم أجد تعبيرا أو عنوانا أبرع من "زمن التفاهة" لوصف الحالة السياسية (عمليا غير سياسية) التي يعيشها الكُرد في سوريا. تتبدى صور وآثار زمن التفاهة من الألف إلى الياء في مختلف أوجه الحياة الحزبية، وليست السياسية، لأكراد سوريا؛ بحيث يمكن التقاط أعراض التفاهة ومجسمات التافهين الحزبيين دون عناء يذكر ولمن لديه ذرة روح نقدية أو استكشافية.

وتتجلى هذه التفاهة بأبهى صورها في مسألة عدد وتشكيل الأحزاب أو "الحويزبات" إن صح التعبير وتكاثرها الاعتباطي، حيث تجاوزت المئة حويزب، والحبل على الجرار والتفاهة في ازدياد.

وهنا تمت الاستعاضة عن الحزب بالحويزب كناية عن الصغر بالمعنيين الكمي والكيفي وعدم الإحساس بوجود هذه الحويزبات، بحيث لا ترى بالعين المجردة إلا إذا تم الارتطام صدفة بأحد تافهيها أو تمت مشاهدتهم عبر وسائط التواصل الاجتماعي التي باتت تشكل بدورها أحد أعمدة وأركان نظام التفاهة الذي تحدث عنه بإسهاب المفكر الكندي آلان دونو، إذ أضحت أغلبية هذه الوسائط منبرا للتافهين يعرضون فيه بضاعتهم الفاسدة والمجترة.

فكرة الكتاب المحورية تدور حول كيفية إفراغ الحقول التي تؤلف نظام حياتنا من محتواها الحقيقي والمجدي والاستعاضة عن ذلك بالتفاهة الممنهجة والمنهجية
◙ فكرة الكتاب المحورية تدور حول كيفية إفراغ الحقول التي تؤلف نظام حياتنا من محتواها الحقيقي والمجدي والاستعاضة عن ذلك بالتفاهة الممنهجة والمنهجية
و"زمن التفاهة" هو عنوان كتاب ألفه مؤخرا الفيلسوف الكندي وأستاذ الفلسفة في جامعة كيبيك الكندية وأحد أبرز النشطاء الأكاديميين ضد الرأسمالية المتوحشة -التي تفترسنا وتنخر أجسادنا وعقولنا في كل لحظة- آلان دونو.

وقد قامت المُحاضرة في كلية الحقوق بجامعة الكويت الدكتورة مشاعل عبدالعزيز الهاجري بترجمة الكتاب إلى العربية مستهلة إياه بمقدمة طويلة وغنية أضافت روعة ورونقا خاصا إلى الكتاب المميز والمثير للجدل.

فكرة الكتاب المحورية تدور حول كيفية إفراغ الحقول الأكاديمية والتعليمية والثقافية والفنية والسياسية والاقتصادية والصحية التي تؤلف مجتمعة نظام حياتنا من محتواها الحقيقي والمجدي والاستعاضة عن ذلك بالتفاهة الممنهجة والمنهجية بحيث تم الإتيان بنظام التفاهة ذي المعالم والملامح الواضحة، ومن أهم ميزاته الرداءة في الأداء والإنتاج. هذا النظام أدى تدريجيا الى سيطرة جموع التافهين على كافة مفاصل الدولة الحديثة.

هذا بالإضافة إلى خضوع كل شيء تقريبا في نظام التفاهة إلى منطق الربح والخسارة، أي القيمة الربحية وغض الطرف المتعمد عن الجوهر والجودة والجدوى والأخلاق، وذلك بسبب احتكار أصحاب رؤوس الأموال لكل مناحي الحياة.

وعلى الرغم من أن المنطقة المضاءة في الكتاب هي الغرب الرأسمالي، إلا أنه يمكن إسقاط الكثير من الصور والتحليلات والاستنتاجات التي تناولها المؤلف في سياق كتابه على الشرق البائس أيضا ولاسيما على أكثر بائسيه، أي الأكراد ضحايا الذات قبل الآخر، وخاصة في جزئية إعلان وتأسيس وتكاثر الحويزبات.

في سنة 1957 كان هناك حزب سياسي كردي واحد في سوريا، الحزب الديمقراطي الكردستاني – سوريا. اليوم، وبعد انقضاء 66 عاما على تأسيس حدك – سوريا، يوجد على الساحة الكردية في سوريا ما يقارب مئة حزب، وهي في معظمها حويزبات أو دكاكين حزبية لا تُشاهد إلا بالميكروسكوبات عالية الدقة.

والمسألة هنا لا تتعلق بضرورة التعددية بقدر ما تتعلق بالفوضوية والعشوائية والاعتباطية والسطحية والتبسيطية في الفكر والتفكير والتصرف والسلوك وبروز شريحة انتهازية ليست لها أية علاقة بالسياسة سوى تحقيق المصالح الشخصية والفئوية الضيقة والظهور لمجرد الرغبة في الظهور والانتقام والتشفي من الخصوم والمنافسين. والقاسم المشترك بين جموع هذه الحويزبات هو تبني لغة خشبية منقرضة قوامها الاجترار والتسطيح والتبسيط والتسفيه. يقول جورج أورويل "إن عادات الكتابة الخشبية تكون أكثر استفحالا في أوساط السياسيين".

يتساءل آلان دونو في متن الكتاب "ما هو جوهر كفاءة الشخص التافه؟ إنه القدرة على التعرف على شخص تافه آخر. معا يدعم التافهون بعضهم بعضا، فيرفع كل منهم الآخر، لتقع السلطة بيد جماعة تكبر باستمرار، لأن الطيور على أشكالها تقع". وهذا ما يحصل حرفيا في السوق الحزبية الكردية في سوريا. فما إن تعلن مجموعة من التافهين عن ولادة حويزب جديد حتى يتهافت التافهون الأقدمون على تقديم التهاني والتبريكات لنظرائهم من التافهين الجدد ومن ثم يزورون بعضهم البعض في دكاكينهم الحزبية ويلتقطون الصور ثم ينشرونها مع كروشهم وعروشهم الوهمية على صفحاتهم الفيسبوكية الخاوية مثل أدمغتهم بدون حياء ولا خجل. وكما يقول إحسان عبدالقدوس "أصحاب المرض الواحد يعرفون بعضهم البعض".

◙ تتبدى صور وآثار زمن التفاهة من الألف إلى الياء في مختلف أوجه الحياة الحزبية وليست السياسية، لأكراد سوريا بحيث يمكن التقاط أعراض التفاهة ومجسمات التافهين الحزبيين دون عناء يذكر

كل شيء متوقع في ظل هذه المعمعة "المهزلة" التي يعيشها الأكراد في سوريا، ظهور "أبطال" جدد، ليس لسبب جوهري أو حاجة ماسة تقتضيها الظروف المحلية والخارجية، وإنما لمجرد أن "الأبطال" الجدد يريدون الظهور.

يقول المفكر الجزائري مالك بن نبي “لكم رأينا أناسا يتصدرون الحياة العامة، فيتناولون الأشياء لمجرد التفاصح والتشدق بها، لا لدفعها ناشطة إلى مجال العمل. فكلامهم في هذا ليس إلا ضربا من الكلام، مجرد من أي طاقة اجتماعية أو قوة أخلاقية".

هذا مع العلم أن معظم "المنقذين" الجدد لهم باع طويل وسجل حافل ومليء بالإخفاقات والانتكاسات في حقل العمل الحزبي. وتعتبر هذه الانتكاسات التي ابتلي بها الشعب الكردي في سوريا والتي ألحقت بالغ الضرر بالقضية الكردية في سوريا بمثابة البراهين الساطعة والأدلة الدامغة على عدم أهلية هؤلاء للعمل الحزبي أو السياسي باسم الجماعة وأن صلاحيتهم الذهنية والفهمية والإدراكية قد انتهت منذ أمد أو أنها كانت معطوبة بالأساس حتى قبل الادعاء بولادتها وفاعليتها.

تشكيل حزب أو بالأحرى حويزب جديد لا يكلف المرء كثيرا في السوق السياسية الكردية في سوريا، فالسياسة بضاعة كما أن لها مروجوها (الباعة)، لها أيضا متلقفوها (الشراة)، ولا يتطلب الأمر سوى إصدار بيان ركيك هنا وإطلاق تصريح أكثر ركاكة هناك مع إطلالات تلفزيونية وفيسبوكية بهلوانية بين الفينة والأخرى، وما أكثرها هذه الأيام، ونشر بضعة مقالات وتعليقات على وسائل ما بات يعرف كذبا بالتواصل الاجتماعي.

جوان ديبو
كاتب سوري كردي

قيم الموضوع
(0 أصوات)

صحيفه الحدث

Facebook TwitterGoogle BookmarksLinkedin
Pin It
Designed and Powered By ENANA.COM

© 2018 جميع الحقوق محفوظه لوكاله الحدث الاخباريه