التواطؤ في إزالة المسافة الفاصلة بين الإعلام والسلطة بالجزائر

بقلم صابر بليدي أيلول/سبتمبر 16, 2023 65

التواطؤ في إزالة المسافة الفاصلة بين الإعلام والسلطة بالجزائر


وكالة الأنباء الرسمية اضطلعت بتصفية حسابات سياسية بين جناح يستغل المآخذ الاقتصادية والاجتماعية للضغط على السلطة القائمة وبين سلطة لا تكلف نفسها عناء الرد الرسمي في إطار نقاش طبيعي.

منصة لتصفية الحسابات السياسية
مع تداخل المفاهيم وإعتام الصورة، بات السباق لمداهنة واستلطاف السلطة أبرز أهداف قطاع عريض من الإعلام الجزائري، ولذلك ظهر في الكثير من الأحيان ملكيا أكثر من الملك، ورغم القناعة الراسخة بأن ذلك ليس مهمته، لكن متطلبات المرحلة، لضمان سيرورة المؤسسة والاستفادة من ريع السلطة، تدفع به أو يندفع إليها بالتورط إلى الأذنين، حتى ولو كان على حساب الرسالة وشرف المهنة.

وجدت وكالة الأنباء الرسمية الجزائرية نفسها في مأزق هي في غنى عنه، لولا التواطؤ المستجد في العقود الأخيرة بين النخب السياسية الحاكمة وبين المؤسسات الإعلامية الحكومية والخاصة، حيث لم يعد للمسافة التقليدية بين السلطتين مكانا، فالأولى تصفي حساباتها بالثانية، والثانية ترى حاضرها ومصيرها في أيدي الأولى، ما دامت هي التي توزع ريع الدولة على من تريد ومن لا تريد.

سجال سياسي في قالب إعلامي، لم يكن ليحدث لولا دخول وكالة الأنباء الرسمية التي تمولها الخزينة العمومية على الخط وتتكفل برد افتقد إلى مقاييس المهنية والاحترافية، واكتفى بنقل وجهة نظر رسمية أحجمت عن الرد الطبيعي على خطاب رئيسة أرباب العمل المرفوع لرئيس الجمهورية عبدالمجيد تبون.

رؤية السلطة لإدارة الشأن الإعلامي في البلاد خلال السنوات الأخيرة حملت انحرافا لافتا، بإخراجه من مهمته التقليدية إلى منصة لتصفية الحسابات السياسية، ولذلك بات يأتي بالشيء ونقيضه دون حرج، ولا التفات للمهنية والمصداقية ولعقل الجمهور، فالأهم بالنسبة إليه هو تبليغ وجهة النظر وليس توجيه أو التأثير في الرأي العام.

الإعلام الجزائري بشقيه الحكومي والخاص، يتغذى من المال العام، وهذه أولى الحجج الداعية إلى ضرورة تقديم الخدمة الأولى لصاحب المال وليس لموزعه

في الجزائر يمكن بسهولة أن تجد صفحة على شبكات التواصل الاجتماعي بمستوى محترم من المحتوى والجمهور والتفاعل وصناعة الرأي العام، بينما تفتقد مؤسسات إعلامية قائمة بذاتها، وتستنفد أموالا طائلة من أموال الدولة، إلى ثقة حتى محررها وكاتبها، وصوتها لا يتعدى حدود الجدران التي تطبخ فيها مادتها الإعلامية، وأما القارئ فهو عملة نادرة في سوق القراءة.

نفس الوكالة ونفس التلفزيون والراديو الحكوميين، رددت على مسامع وأعين الجمهور خلال السنوات الأخيرة أخبارا عن انتحال مناضل تاريخي لصفته التاريخية، لا لسبب وإنما لأن السلطة كانت تريد تشويه سمعة الراحل لخضر بورقعة أمام الجزائريين، لأنه كان داعما ومؤيدا لاحتجاجات الحراك الشعبي، لكنه عاد عن رأيه لما أرادت السلطة غير ذلك وردّ له الاعتبار.

نفس الإعلام تحدث العام 2019 و2020 عن تهم جنائية وخيانات ومؤامرات لنخبة من الجنرالات تمت الإطاحة بهم آنذاك، لكن لما انقلبت الموازين برأ الإعلام ذاته ساحة هؤلاء، دون أن يطرح تساؤلا واحدا عما يحدث في أروقة القضاء ولا في هرم المؤسسة، وسلم رقبته لقواعد اللعبة المتحركة.

والآن اضطلعت وكالة الأنباء الرسمية بتصفية حسابات سياسية، بين جناح يستغل المآخذ الاقتصادية والاجتماعية للضغط على السلطة القائمة، وبين سلطة لا تكلف نفسها عناء الرد الرسمي في إطار نقاش طبيعي، وتوعز للوكالة الرسمية لقول ما لا يمكن قوله في القنوات الرسمية العادية.

وليس للوكالة في ذلك حرج، كما لباقي المؤسسات الحكومية والخاصة في تبني الرؤية الآنية، حتى ولو ظهر نقيضها في اليوم الموالي، ولو حدث وأن أصبحت السلطة القائمة ومنظمة أرباب العمل المذكورة حلفا في المستقبل، سيعيد الخطاب الإعلامي المتداول حياكة قصة جديدة.

ويبدو أن الاتجاه السائد في صناعة الإعلام الجزائري لم يعد يولي للقيم والثوابت المهنية التقليدية أهمية أو اهتماما، ولذلك فهو منغمس في نقل خطاب أحادي حتى ولو أضر ذلك بصورة وسمعة المهنة والدولة معا.

ولو كان الأمر سياسيا، فإن للإعلام الحكومي مبرراته، فهكذا جرت العادة في إعلام العالم العربي، أما أن يزج بنفسه في سجال ذي خلفية اقتصادية، فذلك أكثر إيلاما للمهنة وللمشهد بشكل عام، خاصة وأن الشواهد والاعترافات تصدر في أحيان عدة عن الحكومة أولا.

رؤية السلطة لإدارة الشأن الإعلامي في البلاد خلال السنوات الأخيرة حملت انحرافا لافتا، بإخراجه من مهمته التقليدية إلى منصة لتصفية الحسابات السياسية

مهما كانت الزاوية التي قرئت بها رسالة سعيدة نغزة إلى الرئيس تبون، فإنه لا يمكن تجاهل الحقائق والمآخذ التي وردت فيها بشأن إدارة الشأنين الاقتصادي والاجتماعي، ولذلك فإن الرسائل والمفردات التي حملتها برقية وكالة الأنباء الرسمية تضمنت مبالغات كثيرة تقيم الحجة على صاحبها وليس على خصمها.

الإعلام الجزائري بشقيه الحكومي والخاص، يتغذى من المال العام، وهذه أولى الحجج الداعية إلى ضرورة تقديم الخدمة الأولى لصاحب المال وليس لموزعه، ولو حافظت الوكالة الرسمية على رزانتها ورصانتها لما داهمها محتوى بيان مجلس الوزراء الأخير، بعدما أقر باختلالات في تغطية السوق ببعض المواد الأساسية، وهو نفس الكلام تقريبا الذي ذكرته رسالة نغزة، فماذا تقول الآن وكالة الأنباء الجزائرية؟

في تسعينات القرن الماضي، وفي ذروة العشرية الدموية، كان الاعتقاد السائد في صالات التحرير أن “مهمتنا ليست نقل النشاط الرسمي، لأن الرسميين يؤدون مهامهم الطبيعية، بل مهمتنا هي نقل صوت الشارع إلى المؤسسات الرسمية”، لكن التحول الذي رسمه الرئيس السابق الراحل عبدالعزيز بوتفليقة ويعززه تبون، يسير إلى العكس تماما، فصار الإعلام الجزائري ينقل الصوت الرسمي إلى الشارع، بينما يسد المنافذ أمام انتقال صوت الشارع إلى السلطة.

وذهب إلى أكثر من ذلك، لما صار يُقولب المصالح العليا للدولة في تصفية الحسابات وأداء دور الذراع التي تكسر القبضة الحديدية بين العصب المتصارعة، ولذلك تم تخوين مناضل تاريخي ثم تبرئته، واتهام نخب عسكرية ثم تبرئة ساحتها، ويتحول خطاب طبيعي بين مؤسسة أهلية وبين أخرى رسمية إلى سجال ورسائل وإشارات عززت وجاهة النفور الذي يتبناه الجزائريون من كل ما يتحرك في مفاصل الدولة.

صابر بليدي
صحافي جزائري

قيم الموضوع
(0 أصوات)

صحيفه الحدث

Facebook TwitterGoogle BookmarksLinkedin
Pin It
Designed and Powered By ENANA.COM

© 2018 جميع الحقوق محفوظه لوكاله الحدث الاخباريه