تونس وأوروبا واللعبة القديمة: مقايضة الدعم بالأجندة الحقوقية
الخطاب الذي صدر عن النواب الأوروبيين يركز على نقطة مقايضة الدعم بأجندة حقوق الإنسان، وهو خطاب من شأنه أن يستفز قيس سعيد الذي يضع موضوع السيادة الوطنية خطا أحمر.
اتفاق الشراكة لم يشر إلى حقوق الإنسان
لا يرى الأوروبيون أن اتفاق الشراكة مع تونس الذي تم توقيعه قبل أشهر يقتصر على معالجة قضية الهجرة، وإنما هو أبعد مدى. كان الهدف الظاهر دعم تونس ومساعدة اقتصادها على التعافي من أجل أن تكون أكثر فاعلية في التصدي للهجرة غير النظامية، لكن تصريحات نواب وشخصيات أوروبية أخرى تقول إن الاتفاق يضمن من بين عناصره الخفية الحق في مراقبة وضع حقوق الإنسان، ومساءلة تونس عن الملف الفلاني والملف العلاني.
هذا أمر كان متوقعا، فأوروبا لم تغادر بعد مقاربتها التقليدية للتعامل مع الشركاء جنوب المتوسط، والدليل أن علاقتها متوترة مع أغلب الدول من تونس إلى الجزائر والمغرب.
لا أحد يفهم لماذا يتمسكون الأوروبيون، والأميركان أيضا، بمفهوم مركّب للشراكة لتصبح الشراكة الاقتصادية مدخلا للتأثير السياسي والحقوقي واللغوي، مع أن هذا يحصل مع شركاء آخرين في مناطق أخرى من العالم.
◙ أوروبا كمؤسسة اقتصادية لا تقدر أن تتخلى عن شركائها الجنوبيين لاعتبارات تتعلق بالمصالح والأمن، ودول الجنوب ليس لها من بدائل سوى هذه الشراكة على أن تتحرك بمفردها لبناء منظومة لحقوق الإنسان
لا شيء يفسر هذا سوى استمرار عقلية الوصاية التي تشكلت من مرحلة الاستعمار المباشر، وهي ثقافة تشرّبتها النخب تماما مثلما تشرّبتها أجهزة الدولة ورجال الأعمال والمال.
وتزداد النزعة إلى التدخل الشامل كلما كانت الدولة الشريكة في حاجة إلى الدعم مثلما تقتضيه أيّ شراكة بين طرفين. وهي لا تفرّق عند التنفيذ بين دول شمال أفريقيا ووسطها وغربها، وهو ما يفسر تزايد نزعة العداء لفرنسا في منطقة الساحل والصحراء واتساع دائرة الانقلابات المسنودة شعبيا والتي لا تخفي عداءها لباريس ومعارضتها لوجودها الدبلوماسي والعسكري والاقتصادي والثقافي.
إن الانقلابات لا تعدو أن تكون ردة فعل غاضبة على استمرار النزوع الاستعماري للفرنسيين تجاه القارة، وهي شكل من أشكال المقاومة لهذه الوجود وإن كان شكلا متناقضا مع حركة التطور وغير متلائم مع حاجة الشعوب إلى ديمقراطية إيجابية تحرّر طاقاتها.
وعلى هامش ردود الفعل الخاصة باتفاق الشراكة الأخير بين تونس والاتحاد الأوروبي أكّد الرئيس التونسي أن بلاده لن تكون شرطيا للمنطقة، وكان الهدف من هذا التصريح فضل الشراكة بمفهومها الاقتصادي والمالي عن أدوار أخرى يمكن أن يسعى البعض لتضمينها لهذا الاتفاق الذي كان جزءا من مقاربة للتصدي لموجهات اللاجئين.
فهل أن الرئيس التونسي الذي رفض مجرّد تأويل بشأن لعب دور الشرطي، مع أنّه تأويل قريب وممكن، سيقبل بأن تكون الشراكة مدخلا للرقابة على واقع حقوق الإنسان في تونس، والتدخل لفائدة هذا السجين أو ذاك بقطع النظر عن تقييم وضعه ودوره ومدى ملاءمة التهم الموجّهة إليه قضائيا.
وسبق لقيس سعيد أن أكّد أن “تونس لا تقبل بالتدخل في شؤونها الداخلية”، متسائلا “هل توجد دولة في العالم تقبل بأن يكون على أرضها أشخاص خارج الأطر القانونية؟”.
وتابع “لا مجال أيضا لأن يتدخل في شؤوننا أحد، لا بأمواله ولا بضغوطه، نحن شعب له سيادته وكرامته”.
من البداية كان مستثمرو اتفاق الشراكة الأوروبية – التونسية، كوثيقة تبيح التدخل الحقوقي، يعرفون أن قيس سعيد لن يقبل بهم ولا بأجندتهم، لكنّهم أرادوا إحراجه بنوع من الاستعراض الحقوقي للإيحاء بأن تونس بالرغم من ثورة 2011 ما تزال هي نفسها قبل 2011، وأنها مادامت تحصل على المال الأوروبي فمن حقّنا أن ندخلها لنراقب القضاء والسجون ونحرك الجمعيات لتحتج وتصدر البيانات ونجلب المعارضة إلينا لتكون ورقة ضغط.
وكان واضحا أن الخطاب الذي صدر عن النواب على هامش رفض الزيارة قد ركّز على نقط مقايضة الدعم بأجندة حقوق الإنسان، وهو خطاب من شأن أن يستفزّ قيس سعيد الذي يضع موضوع السيادة الوطنية خطا أحمر في تعاملات تونس الخارجية، وهو يرفضه بشكل قاطع، سواء أكان من الوفود السياسية والبرلمانية أم من الجمعيات الحقوقية.
◙ تونس تفصل بين الأطراف التي ترفع ملف حقوق الإنسان مدخلا للتأثير السياسي وبين الشركاء الأوروبيين سواء أكانوا دولا منفردة أم ضمن فضاء الاتحاد الأوروبي وهو ما أشار إليه وزير الخارجية نبيل عمار
◙ تونس تفصل بين الأطراف التي ترفع ملف حقوق الإنسان مدخلا للتأثير السياسي وبين الشركاء الأوروبيين سواء أكانوا دولا منفردة أم ضمن فضاء الاتحاد الأوروبي وهو ما أشار إليه وزير الخارجية نبيل عمار
وقال النائب في البرلمان الأوروبي منير الساتوري إن الرئيس التونسي قيس سعيّد يعتقد “أنه مخوّل لاختيار محاوريه الأوروبيين ويعتقد أنه لا يحتاج إلى ممثلين من الشعب للحصول على مئات الملايين التي وعدت بها أورسولا فون دير لايين (رئيسة المفوضية الأوروبية)”.
الأسلوب الاستعراضي القديم يتجدد وبنفس الآليات مع أنه فشل في السابق، ولم يحقق مكاسب لا للأوروبيين ولا لواقع حقوق الإنسان في تونس وفي غيرها من المناطق. ويعرف الأوروبيون أن تطوير واقع حقوق الإنسان مرتبط بتطوير الوضع الاقتصادي والاجتماعي وليس العكس.
وأكدت تجربة تونس في العشرية الأولى بعد الثورة أن النفخ في واقع حقوق الإنسان والانتقال الديمقراطي من دون تطوير بالتوازي للشروط الاقتصادية والاقتصادية لا يفضي إلا إلى نتائج عكسية، حيث سئم الناس من الديمقراطية وتظاهروا ضدها، ولو كانت خادمة لهم لتمسكوا بها وتظاهروا لأجلها.
كما أن مسارات النواب الأوروبيين ونشطاء الجمعيات الحقوقية، الذين باتوا يتخصّصون في انتقاد دول جنوب المتوسط، لم تفض في السابق إلى أيّ نتائج بسبب افتقادها لمعايير واضحة لحقوق الإنسان تنطبق على الجميع، فهي لا تتدخل سوى في شؤون دول الجنوب ولا تتحرك بالحماس ذاته للدفاع عن واقع اللاجئين والظروف الصعبة التي يعيشونها، ولا تقف ضد الخطاب المعادي لها في دول الاستقبال مثلما تحرّكات بحماس شديد لانتقاد خطاب ملتبس للرئيس سعيد تم تأويله على أنه خطاب عنصري. فهل عنصرية الشمال محمودة وعنصرية الجنوب لا تليق.
نفس هذه الدوائر الحقوقية التي تطارد التفاصيل الصغيرة في دول الجنوب تسكت عن التجاوزات في حق الجالية في ظل سيطرة اليمين على الحكم في أوروبا، وتدخله في تفاصيل حياة الناس المختلفين.
بالطيع لا يقصد من هذه المقارنة تبرير أيّ تجاوزات ضد حقوق الإنسان في تونس وغيرها، ولكن وضع المسار الاستعراضي الحقوقي الغربي في حجمه كمسار براغماتي يتجه جنوبا ولا يقدر على التحرك في أيّ اتجاه آخر.
◙ الرئيس التونسي الذي رفض مجرّد تأويل بشأن لعب دور الشرطي، مع أنّه تأويل قريب وممكن، سيقبل بأن تكون الشراكة مدخلا للرقابة على واقع حقوق الإنسان في تونس
وما يؤكد أن هذا التوجه الحقوقي توجه استعراضي أن البرلمان الأوروبي هيئة استشارية بلا صلاحيات، ولا تقدر على إلزام الاتحاد الأوروبي بأيّ شيء، فلا هي ستغير مسار الشراكة، ولا تعطلها، أو تؤجلها، وأن الهدف من الضجة حول منع تونس استقبال الوفد هو القول بأن أعضاءها قد زاروا البلاد والتقوا بمن جاؤوا للقائهم، وأنّ نفوذهم قوي، خاصة أن الهدف الاستعراضي من الزيارة سيتحقق سواء سمحت تونس للوفد البرلماني الأوروبي بالدخول أم لم تسمح.
ومن المهمّ الإشارة إلى أن تونس تفصل بين الأطراف التي ترفع ملف حقوق الإنسان مدخلا للتأثير السياسي وبين الشركاء الأوروبيين سواء أكانوا دولا منفردة أو ضمن فضاء الاتحاد الأوروبي، وهو ما سبق أن اشار إليه وزير الخارجية الحالي نبيل عمار في الأيام الأولى لاستلام مهامه
ووجّه عمار خطاب مكاشفة ومصارحة لشركاء تونس الأوروبيين حتى لا يبنوا موقفا متسرعا أو مبنيا على مزايدات أو تقارير سياسية منحازة بشأن واقع حقوق الإنسان، وحثهم على “تفهّم خصوصية ودقّة المرحلة التي تمرّ بها بلادنا واعتماد خطاب مسؤول وبنّاء يعكس حقيقة الواقع ويثمّن ما تمّ تحقيقه في إطار السعي إلى إرساء ديمقراطية حقيقية”.
وأضاف عمّار إنّ تونس “تعوّل على إمكانياتها الذاتية وعلى الدعم الاقتصادي والمالي لشركائها، بمن فيهم الاتّحاد الأوروبي، لإنجاح مسار الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي”.
وبالنتيجة، فإن أوروبا كمؤسسة اقتصادية لا تقدر أن تتخلى عن شركائها الجنوبيين لاعتبارات تتعلق بالمصالح والأمن، ودول الجنوب ليس لها من بدائل سوى هذه الشراكة على أن تتحرك بمفردها لبناء منظومة لحقوق الإنسان مبنية على معادلة تنوع الحقوق وتشابكها، لتقطع الطريق على المزايدات الحقوقية.
مختار الدبابي
كاتب وصحافي تونسي