تسوية الأملاك المصادرة مع وقف التنفيذ في تونس!
الدلائل الصادرة عن منظمات مهتمة بملف الأملاك المصادرة أثبتت أن بعض مؤسسات الدولة والمسؤولين في حكومات العشرية التي سبقت إجراءات يوليو 2021 ساهموا في الإضرار بمصالح الدولة عبر التلاعب بالملف.
هل يسمن ملف الأملاك المصادرة خزينة الدولة
ربما يكون التونسيون على موعد مع سيناريو جديد وربما مفاجئ لإنهاء سنوات من الحديث عن ملف قد لا يسمن خزينة الدولة، أو يسد جوع المواطنين، وحتى ذلك الحين، فإن حلول بيع الأملاك المصادرة تبدو جاهزة نظريا، ولكن مع وقف التنفيذ.
على امتداد سنوات ما بعد 2011 ظل ملف الأملاك المصادرة والأموال المنهوبة قضية جدليّة بالنسبة إلى الأوساط الاجتماعية والسياسية وحتى عامة الشعب، ويطرح التساؤلات بشأن مصيرها في ظروف رافق فيها شعار “مكافحة الفساد” عناوين برامج كل الحكومات.
لقد تعرضت ثماني حكومات قبل حكومة نجلاء بودن لانتقادات وحتى اتهامات بالفساد بسبب سوء التصرف في الشركات المصادرة، والتي كانت تدر زمن النظام السابق عائدات تمول خزينة الدولة، وذلك في خضم توجيه أصابع الاتهام إلى هيئة الحقيقة والكرامة التي تحوم حولها شبهة تلاعب بالملف.
هذه القضية تثير أسئلة بلا أجوبة. وهي محط تركيز أكبر منذ عامين تقريبا، ولذلك يعمل الرئيس قيس سعيد بلا كلل لتحريك مياهها الراكدة منذ توليه الحكم، بدليل توصيفه في كل مرة يظهر فيها بأن ما يحصل “مهزلة”، وأنه لا مناص من ملاحقة المتسببين في الاستيلاء على عدد من هذه الأملاك بعد تدميرها.
عمليات التحقيق في الأملاك المصادرة، أظهرت أن القائمين على إدارة أصول الدولة لم يكتفوا بالعمل السياسي، بل تجاوزوا ذلك بشكل لافت، إذ شكلوا قاعدة اقتصادية واسعة، تخللتها تجاوزات قانونية للمحافظة على استدامة أعمالهم
اهتمام قيس سعيد بهذه المشكلة ينبع من قناعته بأن تسوية الملف يمكن أن تدر موارد على البلاد هي في أمسّ الحاجة إليها اليوم، ويمكن استغلالها لمواجهة الأزمة الاقتصادية بعيدا عن شروط صندوق النقد الدولي.
وللتأكيد على ذلك، تتتالى الضغوط من أعلى هرم في السلطة لتسريع حل القضية، كما نسمع بين الفينة والأخرى قرارات قضائية بتحجير السفر. وكانت آخر خطوة في هذا السياق تحجير السفر على رجل الأعمال مروان المبروك وأربعة من أفراد عائلته في ملف يتعلق بشبهة سوء تصرف في الأملاك المصادرة.
إذا أرادت الدولة أن ترمي هذه المشكلة خلف ظهرها فمن المهم لها أن تعيد التشخيص وتنظر في الآليات المتبعة وحتى الأشخاص الذين عُهد لهم بتولي مسؤولية الملف، إذ من المثير عدم رؤية أثر للقوانين والمراسيم الرئاسية، التي تم استصدارها من يوليو 2021 لمعالجة الملف بشكل عملي.
ومن الجيد أن التصرف في الأملاك المصادرة تحت رقابة القضاء، لكن مسألة إعادة التدقيق فيها وملاحقة المتورطين قد لا تكون كافية، وستجعلنا مرة أخرى ندور في حلقة مفرغة عنوانها الأبرز التراشق بمن يتحمل المسؤولية. هذا الأمر لا بد أن يكون في إطار معركة جانبية في جبهة التسوية الحقيقية.
السلطات تتحفز أكثر لحل الملف بدافع من مواقف المسؤولين السابقين. فمثلا وزير أملاك الدولة في عهد رئيس الحكومة الأسبق إلياس الفخفاخ غازي الشواشي، وهو موقوف في ملف التآمر، أكد خلال توليه الوزارة أن شخصيات من بين الذين تمت مصادرة أملاكهم لها علاقات داخل الدولة وإمكانيات للتصدي للقوة العامة المكلفة باسترجاع هذه الأملاك.
والدليل الآخر على فساد هذا الملف هو استقالة القاضي المتقاعد أحمد الصواب من لجنة التصرف في الأملاك المصادرة في سنة 2015 بسبب تعرض اللجنة لهجمة بتواطؤ من الدولة.
وإن لم تستطع الدولة حتى الآن تحديد قيمة ثروة الرئيس الراحل بن علي وعائلته، التي تم تهريبها إلى الخارج بدقة، إلا أن البنك المركزي توصل إلى تحديد ممتلكات وأموال منهوبة في 10 بلدان، فيما يقدر خبراء قيمتها بملايين الدولارات.
عمليات التحقيق في الأملاك المصادرة، بما في ذلك أملاك حزب التجمع المنحل أيضا، أظهرت أن القائمين على إدارة أصول الدولة لم يكتفوا بالعمل السياسي، بل تجاوزوا ذلك بشكل لافت، إذ شكلوا قاعدة اقتصادية واسعة، تخللتها تجاوزات قانونية للمحافظة على استدامة أعمالهم.
إذا أرادت الدولة أن ترمي هذه المشكلة خلف ظهرها فمن المهم لها أن تعيد التشخيص وتنظر في الآليات المتبعة وحتى الأشخاص الذين عُهد لهم بتولي مسؤولية الملف
وللوهلة الأولى كان يبدو أن النظام السابق من خلال أخطبوط إداري متشعب قام بالاستحواذ فقط على العقارات، لكن المعلومات تؤكد أن لديه حسابات في العديد من البنوك التونسية، بالإضافة إلى ست شركات كانت تعمل لصالحه، إلى جانب نشاطه مع شركات محلية تؤدي دور الوسيط في البورصة.
المؤكد أن فساد إدارة الدولة لملف المصادرة أدى إلى تبديد موارد يصعب تقديرها. فقد صرفت الحكومات المتعاقبة النظر عن معالجة سوء الإدارة قبل أن يستفحل لتكتفي بعد أن استحالت التغطية على نتائجه الكارثية بالاعتراف به، ولوحت بأنها ستحاسب المسؤولين عنه دون أن تتخذ أي إجراءات فعلية وملموسة تعطي انطباعا عن سعيها لإصلاح إدارتها أولا، ولمحاسبة تقصيرها ثانيا.
وتثبت الكثير من الدلائل الصادرة عن منظمات محلية مهتمة بالملف أن بعض مؤسسات الدولة والمسؤولين في حكومات العشرية التي سبقت إجراءات يوليو 2021 ساهموا في الإضرار بمصالح الدولة عبر التلاعب بالأملاك المصادرة مقابل منافع مادية أو سياسية. على سبيل المثال، في يوليو الماضي نشر مرصد رقابة التونسي تقريرا مثيرا كشف فيه أن عائدات بيع الممتلكات المصادرة إلى نهاية 2021 بلغت قرابة المليار دولار وأن ثلثي المبالغ المتأتية من تلك العملية فقط تم تحويلها إلى ميزانية الدولة.
يُستشف من هذا الوضع أن إرث الأملاك المصادرة ظل يسير بخطى تكاد لا تذكر مع كل حكومة تأتي، فشركة الكرامة القابضة، التي صادرتها الدولة في 2012 قامت بتصفية جزء من الشركات المصادرة بمعدل 7 شركات سنويا منذ 2017 إلى غاية 2021، وهو نفس الرقم الذي تم رصده في الفترة الممتدة بين 2013 و2017.
الأرقام الرسمية تشير إلى أن الخزينة العامة جنت أكثر من 32 مليون دولار من صفقات البيع هذه في عام 2019 مقابل نحو 96 مليون دولار عام 2018. ومع ذلك لا يعرف بدقة حجم الأموال التي عبأتها الدولة منذ عام 2020 حتى الآن من بيع الممتلكات المصادرة.
ورغم حالة “البرود” التي تلازم الأملاك المصادرة فإن لسان حال الكثيرين في تونس يقول: متى يُغلق هذا الملف.. وإلى الأبد؟
رياض بوعزة
كاتب وصحافي تونسي