الأغنياء لا يتقنون الإضحاك
الفقراء يصنعون النكتة من تنهداتهم ويرشون على شقائهم بعض السكر والمنكهات كي يستقبلوا غدهم العبوس بوجه باسم.
الضحك تصنعه المفارقات
الأغنياء والمترفون لا يبتدعون النكتة بل يستهلكونها جاهزة وقد صنعتها تلك السلالة الملعونة من الأشقياء الذين يقاومون اليأس والتعب بالمزيد من السخرية والضحك.
الأثرياء لا يجدون الوقت ولا الخيال ولا الحاجة، ولا حتى الدافع والمحرض لصناعة النكتة، لكنهم يستهلكونها على موائدهم بمتعة هائلة ككل الأطعمة والمشروبات والمستحضرات التي قطفتها وصادتها وأحضرتها الأصابع الدامية والسواعد الذاوية والقامات المنكسرة.
المترفون تبهجهم النكت القادمة من أعماق الأرياف المقهورة ومدن الصفيح وسكان العشوائيات وقد يتشدقون بها مع مشروب أسكتلندي أو سمك ياباني أو سيجار كوبي فيقول لهم الخادم الآسيوي “صحة” ثم يستأنفون الضحك وكأن شيئا لم يحدث.
نعم، كأن شيئا لم يحدث مع كل قهقهة مدوية في الصالونات، على أرصفة المتعبين وفي مقاهي الحائرين وحانات المنكسرين ومصانع الكادحين ومزارع الفلاحين، حتى تخرج تلك النكتة طازجة وشهية مثل بيضة من قن دجاج بلدي أو سمكة من شباك بحار مقهور أو ارتشافة نبيذ قطفت عنبه أصابع دامية بالأمس البعيد.
الفقراء يصنعون النكتة من تنهداتهم ويرشون على شقائهم بعض السكر والمنكهات كي يستقبلوا غدهم العبوس بوجه باسم، ويلبس هذا العالم ألوان قوس قزح، وإن كان يسير في جنازة.
النكتة وجدت كي تحقق نوعا من “الانفتاح الطبقي” فيشارك المتخمون إخوانهم المُعدمين ضحكهم من أوجاعهم.. وتمضي الحياة وكأن شيئا لم يحدث.
لا.. أعتقد أن أشياء كثيرة تحدث حين يدس الفقير في نكاته رسائل ملغومة ومشفرة، فلكم هز الضحك المسارح والشاشات حتى وصل إلى العروش فأحدث فيها تصدعا ينذر بالانهيار.
ولكم خرج رسم كاريكاتيري من إطاره، ونقرت ريشة فنان عيني حاكمه مثل عصفور يقاوم وحشا فانتُقم منه وكُسرت أصابعه، لكنها عادت وفعلت في المشهد ما يفعله زبد الموج في الصخور.
ولأن من يمتلك المال يمتلك السلطة، فإن الضاحكين لنكت الفقراء تفطنوا لهذا الأمر فحجموا الضحك وحاولوا تقنينه ومن ثم توظيفه، وسمحوا ببعض النكت الإسفنجية التي تؤدي دورا وظيفيا في امتصاص الغضب، كما أمروا بابتكار نكت مضادة تروج للزوم الطاعة وتهزأ من “ثورجيات الفقراء” عبر تمييعها على شاكلة السخرية من اللهجات الريفية وغيرها.
ويستمر الضحك كأول وأقدم الأسلحة وأنعم القوى الفاعلة في الوعي الجمعي. وقديما سخر أحد العاملين في بناء الأهرام من وضعه المعيشي المزري فرسم على جدار كهفه الذي يأوي إليه بعد يوم شاق، غرابا يطلع السلم درجة درجة والعرق يتصبب من ريش جناحيه.. واعتبر مؤرخو الفن هذا الرسم أول جدارية تكتشف في فن الغرافيتي الذي يُعتبر اليوم أحد أقوى مخالب المدن الحديثة في مقاومة جبروت العولمة.
بقي أنه ينبغي أن نعلم بأن أعتى النكت يصنعها المتجهمون، ويسبقون غيرهم في السخرية من أنفسهم عندما أدركوا أن الضحك تصنعه المفارقات ويغذيه غياب المنطق.
حكيم مرزوقي
كاتب تونسي