مزاد مقاطعة المنتجات الغربية في الدول العربية والإسلامية

بقلم مصطفى القرة داغي تشرين2/نوفمبر 21, 2023 57

مزاد مقاطعة المنتجات الغربية في الدول العربية والإسلامية


هل سيتحلى المقاطعون بالشجاعة بعيدا عن المراءاة والازدواجية التي نشأوا وتعودوا عليها ويمتنعون عن ركوب طائرات بوينغ وأيرباص والسيارات الأميركية والأوروبية لأنها صناعة شركات غربية.

حملات عبثية
بعد هجوم حماس على إسرائيل، الذي استهدف مدنيين، ورد الفعل الإسرائيلي بالهجوم على غزة، وما أحدثه من خسائر بأرواح المدنيين، انطلقت عدة حَملات على مواقع التواصل الاجتماعي تدعو إلى مُقاطعة شركات عالمية يقال بأنها داعمة لإسرائيل، بعناوين تروج إلى أن دعْمها -بمعنى شراء منتجاتها- هو دعم لقتل الفلسطينيين. رفعت شعارات مثل “حتى لا نكون في الجرم شركاء، لنقاطع منتجات الأعداء”، مُرفقة بصور مؤلمة لضحايا القصف الإسرائيلي، تمت المُتاجرة بها من قبل تُجّار هذه الحملات، بدليل أنه بالتزامن معها تداول مطلقوها صوراً لمنتجات محلية الصنع كبدائل عن المنتجات التابعة للشَركات الأجنبية التي طالبوا بمقاطعتها! فالحملة أطلقها سماسرة يتاجرون بدماء ومعاناة أهالي غزة، كما تاجروا سابقاً بالدين، لتحقيق مكاسب سياسية ومادية، مُستغلين شعوبهم التي جَمّدت عقولها وباتت تتحرك خلف مشاعرها المنفلتة وغرائزها البدائية، والتي صارت تمثل أرضا خصبة لترويج مشاريعهم الخبيثة.

هذه الحَمَلات هي أولاً فرصة استغلتها شركات محلية لترويج منتجاتها التي لا يمكن لها أن تنافس المنتجات الغربية في جودتها، ولتحقيق ربح مادي برؤوس السُذّج الذين استغفلتهم هذه الحَمَلات. وثانياً للاستهلاك المحلي في دول مُطلقي هذه الحملات، التي لن يكتب لها النجاح في مَسعاها الأبعَد لإفلاس هذه الشركات، بل بالعكس، الإفلاس سَيَطال عشرات الآلاف من العمال والموظفين الذين يعملون بفروعها في دول المقاطعة. بالتالي لن يكون لها تأثير على مسار الحرب التي ستُقررها وتحسِمها الأسلحة والمفاوضات، بعيداً عن هَيجان القطيع الذي غالباً ما يَبحث عن إثارة عبر التطرف لصالح فكرة معينة. وهذه المَرّة وجدها في المقاطعة، التي باتت مزاداً يتسابق العوام للفوز به عبر المزايدة على الآخر، بدليل مواقع التواصل التي تعُج بأشخاص يتسابقون لعَرض الصور التي تُظهِر مُقاطعتهم للمَنتوج الأجنبي (س)، أو شراءهم للمنتوج الوطني (ص).

من يقاطع يجب أن يكون قادرا على المنافسة والاستمرار دون الحاجة إلى المنافس. وهذه الشعوب لا تقدر على المنافسة، خصوصا مع الغرب الذي باتت تعتبره عدوّا لدودا

المخيف في الموضوع هو أن خُبث الكبار بدأ يُفسِد براءة الصغار بهذا الهراء. فقد نشرت صحيفة تقريرا، جاء فيه أنه بأحد متاجر البحرين كانت طفلة عمرها 14 عاماً تحمل تابلت أثناء تسوّقها مع ذَويها، لتُراجع قائمة منتجات غربية لتمتنع عن شرائها. فالفتاة وشقيقها اعتادا على تناول وجبات سريعة من ماكدونالدز، لكنهما انضَمّا الآن إلى الكثيرين في المجتمعات الإسلامية ضمن حملة لمقاطعة شركات عالمية يعتبرون أنها تدعم إسرائيل. وتقول الفتاة “بدأنا بمقاطعة هذه الشركات، تضامنًا مع فلسطين”، مشيرةً إلى أنها تبحث عن منتجات محلية بدلاً من المستوردة المُرتبطة بحلفاء إسرائيل! طبعًا هذا الهراء لا يمكن له الصمود في وجه حقيقة أن هذه الشعوب كسولة غير منتجة، وتستورد حتى حبيبات البلاستيك التي تُصنع منها النِعال وإبريق الحمام في مصانع مستوردة بِدَورها من الغرب. ومُراهنتهم على خسارة هذه الشركات أو تراجع مبيعاتها كنتيجة للمقاطعة، باعتبارهم مجتمعات استهلاكية تمثل سوقا حيَوية لبضاعتها، سوف تفشل، لأن نسبة المقاطعين في كل شعب ضئيلة مقارنة بعدد نفوسه، كما أن لهذه الشركات مستهلكين في كل العالم لا علاقة لهم بهُراء المقاطعة. أما مُراهنتهم على أن شرِكاتهم المحلية ومُنتجاتهم الوطنية ستغطي الحاجة إلى المُنتجات الغربية، فهي أيضا لن تصمُد، كون الشرِكات المحلية صغيرة ومحدودة الطاقة الإنتاجية، ولن تتمكن من تغطية الطلب المُتزايد على هذه المنتجات أو منافسة جودتها.

من يقاطع يجب أن يكون قادرا على المنافسة والاستمرار دون الحاجة إلى المنافس. وهذه الشعوب لا تقدر على المنافسة، خصوصا مع الغرب الذي باتت تعتبره عدوّا لدودا لأسباب كثيرة، أهمها شعور بالنقص تطَوّر إلى حقد ومَيل إلى العنف. حتى إذا نظرنا إلى الأمر من منظور صراع الثقافات، الذي تُصِر هذه المجتمعات على خوضه مع الغرب رغم أنها تعيش عالة على ثقافته، سواء كشعوب في بلدانها أو كجاليات في بلدانه، سنجده في صالح الغرب. فأدوات الصراع هي التفوق التكنولوجي والثقافي وحُب الحياة والمعرفة والجمال من جهة الغرب، ومحاولة التفوق عدَديّا والرغبة في الموت والتلذذ بالتخلف والتباهي بالجهل من جهة هذه الشعوب. والغرب يغزو العالم بالإنترنت ومواقع التواصل التي باتت تدخل كل بيت وتسمح لأي كان بأن يطّلع على ما حَوله، ولن يكون بإمكان هذه الشعوب إبقاء أجيالها المتعاقبة مقيدة بأغلال عاداتها وتقاليدها ودينها، وبمرور الوقت سيتضاعف عدد أبنائها الذين سيَسعون للتحرر من عبوديتها، والذين وإن سار بعضهم على درب ذويه فإن ما يحدث في العالم الذي بات قرية صغيرة سيفاجئه ويجذبه إلى الغرب. وفي الوقت الذي يسعى فيه الغرب لكسب العالم بالتكنولوجيا التي تواكب روح العصر وتعمل على جعل العالم مكانا أفضل للعيش، تسعى هذه المجتمعات لكسب العالم بتشريعات دينها التي تعود إلى ألف وأربعمئة سنة مضت، ووصل بها الخرف أحيانا إلى القول إن اتهام الغرب لها بالإرهاب دفع بشعوبه إلى البحث حول دينها وقراءة قرآنها لتصبح شعوبا مسلمة، “من باب رب ضارة نافعة”! وهو كلام فارغ تقنع به أتباعها ليزدادوا تطرفا على تطرفهم؛ بدليل أن نِسبة من يدخلون الإسلام في الغرب ضئيلة مقارنة بمن يدخلون البوذية، لأن دينا لا يفرض على المرء ملبَسه ومأكله ومشرَبه وكيفية دخوله إلى الحمام، صَلاته يوغا وتشريعاته حِكَم فلسفية، سيجذب الغربيين الذين تساموا بقِيَمهم الإنسانية، أكثر بكثير من دين أغلب شيوخه وأتباعه يتباهون بأن دينهم يوصَم بالإرهاب.

المواقف الرسمية لحكومات الدول العربية والإسلامية من المقاطعة تبايَنت بين الحكيمة كأغلب الحكومات العربية، التي لا تدعم هذه الحملات رسميا لأنها تعلم أنها نوبة هستيريا ستأخذ وقتها وتنتهي، وبين البراغماتية ودخول الحكومة مَزاد المقاطعة كما في تركيا

كل ذلك تضاف إليه حقيقة أخرى، وهي أن هذه المجتمعات باتت تعيش عُزلة علمية وثقافية وحضارية عن العالم، بسبب تطرفها الديني الذي جعلها تنظر إلى باقي العالم ككافر أو مُشرك، رغم أن دينها أوصاها بأن تنظر إليه كأخ في الدين أو نظير في الخلق. حتى جالياتها التي في الغرب تتعامل مع مَن استضافوها ببلدانهم ومنحوها الأمان بهذه العقلية. بل باتت تتعامل بها مع شركائها في الوطن، كالأقليات الدينية التي صارت تهاجر إلى الخارج، بسبب ما تتعرض له من تهديدات. بالتالي ستزيد المقاطعةُ عُزلةَ هذه الشعوب، وسيَنظر إليها العالم شزرًا، وإلى تصرفاتها باشمئزاز، والتي باتت تُنفّر الآخرين منها، وتدفعهم إلى البحث عن شعوب أخرى يتعاملون معها اقتصاديًّا وسياحيّا وثقافيّا، أو كمهاجرين أو أياد عاملة، شعوب سَويّة منفتحة على الآخر، أو أقرب إليهم جغرافيًّا وثقافيا ودينيا.

المواقف الرسمية لحكومات الدول العربية والإسلامية من المقاطعة تبايَنت بين الحكيمة كأغلب الحكومات العربية، التي لا تدعم هذه الحملات رسميا لأنها تعلم أنها نوبة هستيريا ستأخذ وقتها وتنتهي، وبين البراغماتية ودخول الحكومة مَزاد المقاطعة ومطالبتها الشعب بذلك، كما في تركيا. فقد نشرت وسائل الإعلام الحكومية قوائم لمُنتجات شركات يفترض أنها تؤيد إسرائيل، وطالبت بمقاطعتها، وأشارت إلى الأتراك بالتوقف عن الذهاب إلى ستاربكس وماكدونالدز، والامتناع عن شراء قمصان أرماني وأحذية تمبرلاند! كما قالت رئاسة البرلمان التركي مثلاً إن مُنتجات لشركات تدعم إسرائيل لن يتم تقديمها في مطعم البرلمان. دعوات المقاطعة خلال الأزمات تقليد في إيران وتركيا وغيرهما من الدول التي يحكمها إسلام سياسي يعتاش على شعارات شعبوية لإلهاء الشارع. قبل سنوات مثلاً دعا رجب طيب أردوغان شعبه إلى عَدَم شراء الهواتف الأميركية، لأن أميركا فرضت عقوبات على تركيا، وقد أخذ الأمر وقته وانتهى، وعاد آيفون الجهاز الأكثر مبيعا في تركيا! أردوغان الباحث عَن طريق بين البراغماتية والشعبوية يدرك مشاعر مواطنيه المعادية لإسرائيل، لذا سَعى لأخذ زمام المبادرة عبر توجيه نقد للهجوم الإسرائيلي على غزة، يعلم أن إسرائيل لن تأخذه على مَحمل الجد، لأنه لا يريد وليس من مصلحته معاداتها. هو مثال على الحكام الإسلاميين الذين يحاولون التوفيق بين غضب شعوبهم ومصالح بلدانهم مع إسرائيل.

هنالك الكثير مِن الأمثلة التي تثبت عبثية هذه الحملات، وعبثية وأحيانًا حُمق المشاركين فيها. الأول هو أنهم يدعون إلى حَمَلاتهم باستخدام الموبايلات واللابتوب، ويروجون لها في الإنترنت وبرامج التواصل الاجتماعي كفيسبوك وتويتر وتيك توك، وكلها مُنتجات غربية! والثاني هو قيام مئات الأتراك قبل أيام بشراء كميات كبيرة من عبوات مُنتج كوكا كولا من المتاجر، ثم سَكبها في الشارع تضامنا مع فلسطين، واحتجاجا على دعم الشركة لإسرائيل، وطبعا في خضم هذا التضامن والاحتجاج العبثي الغوغائي سَجّل سهم فرع الشركة التركي زيادة نسبتها 13 في المئة في بورصة إسطنبول! وهنا نسأل: هل سيتحلى المقاطعون بالشجاعة، بعيدا عن المراءاة والازدواجية التي نشأوا وتعودوا عليها! ويمتنعون عن ركوب طائرات بوينغ وأيرباص والسيارات الأميركية والأوروبية، لأنها صناعة شركات غربية، الكثير منها تبرّعت لإسرائيل في أزمتها الأخيرة؟ وهل سيكونون صادقين مع أنفسهم ومع غيرهم، ويعودون إلى استخدام الدَواب للتنقل؟ ليثبتوا أن بعض ظننا بهم إثم، وأنهم مقاطعون حقيقيون، وليسوا مقاطعي مَزادات، كما هي حقيقتهم.

مصطفى القرة داغي
كاتب عراقي

قيم الموضوع
(0 أصوات)

صحيفه الحدث

Facebook TwitterGoogle BookmarksLinkedin
Pin It
Designed and Powered By ENANA.COM

© 2018 جميع الحقوق محفوظه لوكاله الحدث الاخباريه